كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



الثاني أنه لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحًا واعتدادًا منه بما صدر عنه فعقبه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ليدل على أن العبادة مما لا تتم إلا عونة وتوفيق وإذن منه سبحانه،
الثالث أن العبادة مما يتقرب بها العبد إلى الله تعالى والاستعانة ليست كذلك فالأول أهم،
الرابع أنها وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه أدعى للإجابة.
الخامس: أنها مطلوبة لله تعالى من العبادة، والاستعانة مطلوبهم منه سبحانه فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه،
السادس: أن العبادة واجبة حتمًا لا مناص للعبادة عن الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم.
السابع: أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء والاستعانة أقوى التئامًا بطلب الهداية،
الثامن: أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة والخلوص من الشرك والتخصيص بالاستعانة بعد الرسوخ،
التاسع: أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رءوس الآي،
العاشر: أن أحدهما إذا كان مرتبطًا بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلي وأحسنت إلي فقضيت حقي.
الحادي عشر: أن مقام السالكين ينتهي عند قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وبعده يطلب التمكين وذلك أن الحمد مبادي حركة المريد فإن نفس السالك إذا تزكت ومرآة قلبه إذا انجلت فلاحت فيها أنوار العناية الموجبة للولاية تجردت النفس الزكية للطلب فرأت آثار نعم الله تعالى عليها سابغة وألطافه غير متناهية فحمدت على ذلك وأخذت في الذكر فكشف لها الحجاب من وراء أستار العزة عن معنى {رَبّ العالمين} فشاهدت ما سوى الله سبحانه على شرف الفناء مفتقرًا إلى المبقى محتاجًا إلى التربية فترقت لطلب الخلاص من وحشة الأدبار وظلمة السكون إلى الأغيار فهبت لها من نفحات جناب القدس نسائم ألطاف الرحمن الرحيم فعرجت للمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الملك الحقيقي فنادت بلسان الاضطرار في مقام {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] أسلمت نفسي إليك وأقبلت بكليتي عليك وهناك خاضت لجة الوصول وانتهت إلى مقام العين فحققت نسبة العبودية فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وهنا انتهاء مقام السالك ألا يرى إلى سيد الخلق وحبيب الحق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] فطلب التمكين بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم} واستعاذ عن التلوين بقوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين} فصعد مستكملًا ورجع مكملًا وكأنه لهذا سميت الصلاة معراج المؤمنين، البحث.
الرابع: في سر الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وقد ازدحمت فيه أذهان العلماء بعد بيان نكتته العامة وهي التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطًا للسامع فقيل لما ذكر الحقيق بالحمد ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم علوم معين خوطب بذلك ليكون أدل على الاختصاص والترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود وكأن المعلوم صار عيانًا والمعقول مشاهدًا والغيب حضورًا، وقيل لما شرح الله تعالى صدر عبده وأفاض على قلبه وقالبه نور الإيمان والإسلام من عنده ترقى بذريعة الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى رتبة الإحسان وهو: «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وأيضًا حقيقة العبادة انقياد النفس الأمارة لأحكام الله تعالى وصورته وقالبه الإسلام ومعناه وروحه الإيمان ونوره الإحسان وفي {نَعْبُدُ} والالتفات تتم الأمور الثلاثة وأيضًا لما تبين أنه ملك في الأزل ما في أحايين الأبد علم أن الشاهد والغائب والماضي والمستقبل بالنسبة إليه على حد سواء فلذلك عدل عن الغيبة إلى الخطاب ويحتمل أن يكون السر أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى والله تعالى حي كريم.
وقيل إنه لما كان الحمد لا يتفاوت غيبة وحضورًا بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتم وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الافلين} [الأنعام: 76] لا جرم عبر سبحانه وتعالى عن الحمد بطريق الغيبة وعنها بطريق الخطاب إعطاء لكل منهما ما يليق من النسق المستطاب وأيضًا من تشبه بقوم فهو منهم، فالعابد لما رام ذلك سلك مسلك القوم في الذكر ومزج عبادته بعبادتهم وتكلم بلسانهم وساق كلامه على طبق مساقهم عسى أن يصير محسوبًا في عدادهم مندرجًا في سياقهم:
إن لم تكونوا منهم فتشبهوا ** إن التشبه بالكرام فلاح

وأيضًا فيه إشارة إلى أن من لزم جادة الأدب والانكسار ورأى نفسه بعيدًا عن ساحة القرب لكمال الاحتقار فهو حقيق أن تدركه رحمة إلهية وتلحقه عناية أزلية إلى حظائر القدس وتطلعه على سرائر الأنس فيصير واطئًا على بساط الاقتراب فائزًا بعز الحضور وسعادة الخطاب. وأيضًا إنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة فإ خطبها عظيم ومن دأب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره ليأتي بها العابد خالية عن الكلال عارية عن الفتور والملال مقرونة بكمال النشاط موجبة لتمام الانبساط:
حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي ** فأنت بمرأى من سعاد ومسمع

وأيضًا إن الحمد ليس إلا إظهار صفات الكمال على الغير فما دام للأغيار وجود في نظر السالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب عليهم ويخاطبهم بذكر مآثره الجميلة لديهم وأما إذا آل أمره لازمة الأذكار إلى ارتفاع الحجب والأستار واضمحلال جميع الأغيار لم يبق في نظره سوى المعبود الحق والجمال المطلق وانتهى إلى مقام الجمع وصار في مقعد {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] فبالضرورة لا يصير توجيه الخطاب إلا إليه ولا يمكن إظهار السر إلا لديه فينعطف عنان لسانه إلى جنابه ويصير كلامه منحصرًا في خطابه، وثم وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة وعندي وهو من نسائم الأسحار أن الله سبحانه بعد أن ذكر يوم الدين وهو يوم القيامة التفت إلى الخطاب للإشارة إلى أنه إذا قامت القيامة على ساق وكان إلى ربك يومئذ المساق هنالك يفوز المؤمن بلذة الحضور ويتبلج جبينه بأنوار الفرح والسرور ويخلو به الديان وليس بينه وبينه ترجمان ويكشف الحجاب وتدور بين الأحباب كؤس الخطاب، فتأمل في عظيم الرحمة كيف قرن سبحانه هذا الترهيب برحمتين فصرح قبل يوم الدين بما صرح ورمز بعد ذكره بما رمز ولن يغلب عسر يسرين.
ومن باب الإشارة أن يوم الدين تلويح إلى مقام الفناء لأنه موت النفس عن شهواتها وخروجها عن جسد تعلقها بالأغيار والتفاتها ومن مات فقد قامت قيامته فعند ذلك يحصل البقاء في جنة الشهود ويتحقق الجمع في مقام صدق عند المليك المعبود وفوق هذا مقام آخر لا يفي بتقريره الكلام ولا تقدر على تحريره الأقلام بل لا يزيده البيان إلا خفاء ولا يكسبه التقريب إلا بعدًا واعتلاء.
ولو أن ثوبًا حيك من نسج تسعة ** وعشرين حرفًا في علاه قصير

اللهم أغرقنا في بحار مشاهدتك ومن علينا بخندريس وحدتك حتى لا نحدث إلا عنك ولا نسمع إلا منك ولا نرى إلا إياك، هذا وقد ذكر الإمام السيوطي نقلًا عن الشيخ بهاء الدين أنه قال اتفقوا على أن فيما نحن فيه التفاتًا واحدًا وفيه نظر لأن الزمخشري ومن تابعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقًا فإن كان التقدير قولوا الحمد لله ففي الكلام المأمور به التفاتان، أحدهما في لفظ الجلالة وأصله الحمد لك لأنه تعالى حاضر، والثاني في {إِيَّاكَ} لمجيئه على خلاف أسلوب ما قبله وإن لم يقدر كان في الحمد لله التفات من التكلم للغيبة لأنه تعالى حمد نفسه ولا يكون في {إِيَّاكَ} التفات لتقدير قولوا معها قطعًا فأحد الأمرين لازم للزمخشري والسكاكي إما أن يكون في الآية التفاتان أو لا يكون التفات أصلًا هذا إن قلنا برأي السكاكي كما يشعر به كلام الزمخشري في الكشاف لأنه جعل في الشعر الذي ذكره ثلاث التفاتات وإن قلنا برأي الجمهور ولم نقدر قولوا إياك نعبد فإن قدر قولوا قبل الحمد لله كان فيه التفات واحد وبطل قول الزمخشري إن في البيت ثلاث التفاتات انتهى. وهو كلام يغني النظر فيه عن شرح حاله فليفهم.
البحث الخامس: في سر تكرار {إِيَّاكَ} فقيل للتنصيص على طلب العون منه تعالى فإنه لو قال سبحانه: إياك نعبد ونستعين لاحتمل أن يكون إخبارًا بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب وقيل إنه لو اقتصر على واحد را توهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه. وقيل إنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال الدار بين زيد وبين عمرو وفيه أن التكرير إنما يكون تأكيدًا إذا لم يكن معمولًا لفعل ثان وإياك الثاني في الآية معمول لنستعين مفعول له فكيف يكون تأكيدًا، وقيل إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة، وعندي أن التكرار للإشعار أن حيثية تعلق العبادة به تعالى غير حيثية تعلق طلب الاستعانة منه سبحانه ولو قال: إياك نعبد ونستعين لتوهم أن الحيثية واحدة والشأن ليس كذلك إذ لابد في طلب الإعانة من توسط صفة ولا كذلك في العبادة فلاختلاف التعلق أعاد المفعول ليشير بها إليه.
البحث السادس: في سر إطلاق الاستعانة فقيل ليتناول كل مستعان فيه فالحذف هنا مثله في قولهم فلان يعطي في الدلالة على العموم ورجح بلزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على البعض وأيضًا قرينة التقييد خفية وبأنه المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وبأن عموم المفعول متضمن لنفي الحول والقوة عن نفسه والانقطاع بالكلية إليه تعالى عمن سواه فهو أولى قام العبادة وإلى ترجيحه يشير صنيع العلامة البيضاوي، وقال صاحب الكشاف: الأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ويكون قوله تعالى: {اهدنا} بيانًا للمطلوب من المعونة كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا اهدنا الصراط المستقيم وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض انتهى، ووجه التخصيص حينئذٍ كمال احتياج العبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس. {إِنَّ النفس لامَّارَةٌ بالسوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} [يوسف: 53] والقرينة مقارنة العبادة ولا خفاء في وضوحها وكون عموم المفعول متضمنًا لما ذكر معارض بنكتة التخصيص والرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لعلها لم تثبت كذا قيل، والإنصاف عندي أن الحمل على العموم أولى ليتوافق ألفاظ هذه السورة الكريمة في المعنى المطلوب منها ولأن التوسل بالعبادة إلى تحصيل مرام يستوعب جميع ما يصح أن يستعان فيه ليدخل فيه التوفيق دخولًا أوليًا أولى من مجرد التوفيق ويلائمه الصراط المستقيم فإنه أعم من العبادات والاعتقادات والأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأمور الدينية والنجاة من شدائد القبر والبرزخ والحشر والصراط والميزان ومن عذاب النار والوصول إلى دار القرار والفوز بالدرجات العلى وكلها مفتقر إلى إعانة الله تعالى وفضله. وأيضًا طرق الضلالات التي يستعاذ منها بغير المغضوب عليهم ولا الضالين لا نهاية لها وباستعانته يتخلص من مهالكها. وأيضًا لا يخفى أن المراد بالعبادة في إياك نعبد هي وما يتعلق بها وما تتوقف عليه فإذًا توافق الاستعانة في العموم. وأيضًا قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مطلق شامل كل إنعام، وأيضًا لو كان المراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة يبقى حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم الكتاب ولا أظن أحدًا يقول إنه يعلم من هذا التخصيص فلا أختار أنا إلا العموم وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس: «إذا استعنت فاستعن بالله» الحديث وهو ظاهر فيه ولعل ابن عباس من هنا قال به في الآية إذا قلنا بثبوت ذلك عنه وهو الظن الغالب فمن استعان بغيره في المهمات بل وفي غيرها فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم أفلا يستعان به وهو الغني الكبير أم كيف يطلب من غيره والكل إليه فقير؟ وإني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا وراموا الثروة من سواه فافتقروا وحاولوا الارتفاع فاتضعوا فلا مستعان إلا به ولا عون إلا منه:
إليك وإلا لا تشد الركائب ** ومنك وإلا فالمؤمل خائب

وفيك وإلا فالغرام مضيع ** وعنك وإلا فالمحدث كاذب

وقد قرأ عبيد بن عمير الليثي وزيد بن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي نعبد بكسر النون وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وهذيل وكذلك حكم حروف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه كنستعين مما لم ينضم ما بعدها فيه سوى الباء لاستثقال الكسرة عليها على أن بعضهم قال يجل بكسر ياء المضارعة من وجل وقرأ بعضهم يعلمون وقرأ الحسن وابن المتوكل وأبو محلف يعبد بالياء مبنيًا للمفعول وهو غريب وعن بعض أهل مكة أنه قرأ نعبد بإسكان الدال وقرأ الجمهور نعبد بفتح النون وضم الدال وهي لغة أهل الحجاز وهي الفصحى {اهدنا الصراط المستقيم} الهداية دلالة بلطف لدلالة اشتقاقه ومادته عليه ولذا أطلق على المشيء برفق تهاد وسميت الهداية لطفًا وقوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافت: 23] وارد على الصحيح مورد التهكم على حد {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الإنشقاق: 24] ويقال هداه لكذا وإلى كذا فتعديه باللام وإلى إذا لم يكن فيه وهداه كذا بدونهما محتمل للحالين حتى لا يجوز في {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] لسبلنا أو إلى سبلنا إلا بإرادة الإرادة في جاهدوا أو إرادة تحصيل المراتب العلية في سبلنا ومن ثم جمعها وقد ورد من عمل بما علم ورثة الله تعالى علم ما لم يعلم وقد يقال المراد بيان الاستعمال الحقيقي وأما باب التجوز فواسع وهل يعتبر في الدلالة الإيصال أم لا فيه اختلاف المتأخرين من أهل اللسان ففريق خصها بالدلالة الموصلة وآخرون بالدلالة على ما يوصل، وقليل قال إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت عنى الإيصال ولا تسند إلا إليه تعالى كما في الآية وإن تعدت باللام أو إلى كانت عنى إراءة الطريق فكما تسند إليه سبحانه تسند إلى القرآن كقوله تعالى: {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هي أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وإلى النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] والكل من هذه الآراء غير خال عن خلل، أما الأول فيرد عليه قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} والجواب بجواز وقوعهم في الضلال بالارتداد بعد الوصول إلى الحق لا يساعده ما في التفاسير والتواريخ فإنها ناطقة بأن الجم الغفير من قوم ثمود لم يتصفوا بالإيمان قطعًا ومن آمن من قومه إلا قليل وقد بقوا على إيمانهم ولم يرتدوا على أن صاحب الذوق يدرك من نفس الآية خلاف الفرض كما لا يخفى. وأما الثاني فيرد عليه قوله تعالى لحبيبع صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وما يقال إنه على حد قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] أو أن المعنى أنك لا تتمكن من إراءة الطريق لكل من أحببت بل إنما يمكنك إراءاته لمن أردنا لا يخلو عن تكلف، وأما الثالث فإن كلام أهل اللغة لا يساعده بل ينادي بما ينافيه وع ذلك فالقول بأن المتعدية لا تسند إلا إلى الله تعالى منتقض بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعنى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] وعن مؤمن آل فرعون {ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد} [غافر: 38] ولهذا الخلل قال طائفة بالاشتراك والبحث لغوي لا دخل للاعتزال فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمته {والصراط} الطريق وأصله بالسين من السرط وهو اللقم ولذلك يسمى لقمًا كأن سالكه يبتلعه أو يبتلع سالكه ففي الأزهري أكلته المفازة إذا نهكته لسيره فيها وأكل المفازة إذا قطعها بسهولة قال أبو تمام:
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ** رعاها وماء المزن ينهل ساكبه